إيلاف من بيروت: في سردٍ مكثّف يعانق السياسة كما الفن، يقدّم الروائي والناقد السينمائي سليم البيك عبر مؤلفه الجديد "سيرة لسينما الفلسطينيين: محدودية المساحات والشخصيات" مقاربة مختلفة للسينما الفلسطينية. صدر الكتاب حديثاً عن مؤسسة الدراسات الفلسطينية في بيروت، وجاء في 295 صفحة من القطع الكبير، ليشكل وثيقة نقدية وتحليلية لتجربة السينما الروائية التي صنعها الفلسطينيون منذ العام 1987 وحتى العام 2024، بدءاً من أولى محاولات التأسيس الفني وانتهاءً بما أفرزته الحرب الإبادية من تحوّلات فكرية وشخصيات درامية خرجت من قيد المساحة المفروضة.
نال المشروع منحة من مؤسسة "آفاق" في بيروت عام 2021، ما أتاح للبيك التفرغ لتفكيك بنية السينما الروائية الفلسطينية، بعيداً عن الأحكام النمطية، باحثاً عن الملامح السردية، والحدود التي لا تفرضها الشاشة، بل تفرضها السياسة.
بين انتفاضتين
سيرة السينما... وسيرة وطن
يرصد الكتاب سيرة سينما الفلسطينيين بوصفها انعكاساً مباشراً لحالة الاحتلال، والانقسام، والشتات. يميّز البيك منذ الصفحة الأولى بين "السينما الفلسطينية" و"سينما الفلسطينيين"، مبيناً أن الكتاب لا يُعنى بإنتاج الدولة أو المؤسسات، بل بإنتاج أفراد فلسطينيين حاولوا بناء سرديات بصرية تحاكي واقعهم وتكسر نمطية تمثيلهم.
يبدأ التأريخ مع انتفاضة الحجارة عام 1987، ويختتم مع آثار الحرب الإبادية على غزّة، ما يجعل من هذه السيرة وثيقة سينمائية لوطنٍ محاصر، وشعبٍ يكتب وجوده عبر العدسة.
وبين هذين الحدثين، يرصد البيك لحظة تحوّل شكّلتها انتفاضة الأقصى، التي فرضت واقعاً ميدانياً وسياسياً جديداً انعكس بوضوح على الشكل والمضمون في الأفلام الفلسطينية.
المساحة والشخصية
سردية الخنق... وتحدّي التماثل
يطرح البيك في كتابه أطروحة مركزية: أن محدودية المساحات في الفيلم الفلسطيني (بالمعنى المادي والسياسي معاً) فرضت شخصيات ذات إمكانيات محدودة، محيلة إلى طبيعة الواقع الاستعماري القائم. ومع ذلك، لا يغفل الكتاب رصد لحظات التمرّد الجمالي، حين تنتفض الشخصية داخل النص السينمائي ضد القيود المفروضة عليها، فتتحرّر ذاتياً، متجاوزةً التنميط الجمعي الذي اعتادت هذه السينما أن تفرضه.
تشكّل هذه المحدودية – بحسب البيك – الثيمة الأبرز في سينما الفلسطينيين، رغم وجود استثناءات "تُثبت القاعدة"، عبر شخصيات درامية تتطوّر مع تقدم القصة، وتخرج من القالب الضيق المفروض قسراً.
تفكيك التاريخ السينمائي
ثلاث مراحل وأثر الخمسة جيمات
يقسم البيك سيرة السينما إلى ثلاث مراحل:
مرحلة التأسيس الأولى: في الثمانينيات والتسعينيات، وهي التي مهدت لسينما روائية فلسطينية ما تزال تبحث عن صوتها.
مرحلة ما بعد عام 2000: تأسيسٌ ثانٍ مع انتفاضة الأقصى، وانعطافات سياسية بعد اتفاق أوسلو.
مرحلة ما بعد 2010: تكريسٌ لما يسميه البيك "المحدوديات الاستعمارية"، حيث بلغ التأثير الميداني ذروته.
وقد عالج المؤلف 57 فيلماً من هذه المراحل، رابطاً حضورها الدرامي بمجموعة ثيمات أسماها "الجيمات الخمسة": الجندي، الجيب، الحاجز، السجن، الجدار، معتبراً أن هذه المفردات ليست فقط مشاهد متكررة، بل أدوات لصياغة الهوية السينمائية الفلسطينية.
سيرة وطن عبر الكاميرا
السينما الفلسطينية كمحفوظات للألم والبطولة
لا يكتفي البيك بتأريخ الأفلام، بل يقدّم عبر هذا الكتاب سيرة بديلة للقضية الفلسطينية من زاوية سينمائية، تتكامل مع السرديات التاريخية والسياسية والاجتماعية. فالفلسطينيون الذين فُرضت عليهم تراجيديا ممتدة منذ نكبتهم الأولى، استطاعوا إنتاج خطاب بصري لا يخلو من بطولة، ولا ينفصل عن الألم.
السينما هنا ليست أداة توثيق فقط، بل مساحة مقاومة، ومختبر هوية، ومنصة يعاد فيها تشكيل الذاكرة الجمعية، بكل ما تحمله من خسارات وانتصارات.